فصل: تفسير الآية رقم (105):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (105):

{وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105)}
{وَلاَ تَكُونُواْ كالذين تَفَرَّقُواْ} وهم اليهود والنصارى قاله الحسن والربيع. وأخرج ابن ماجه عن عوف بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة فواحدة في الجنة وسبعون في النار وافترقت النصارى على ثنتين وسبعين فرقة فإحدى وسبعون في النار وواحدة في الجنة والذي نفسي بيده لتفترقن أمتي على ثلاث وسبعين فرقة فواحدة في الجنة وثنتان وسبعون في النار قيل: يا رسول الله من هم؟ قال: الجماعة» وفي رواية أحمد عن معاوية مرفوعًا «إن أهل الكتاب تفرقوا في دينهم على ثنتين وسبعين ملة وتفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين كلها في النار إلا واحدة»، وفي رواية له أخرى عن أنس مرفوعًا أيضًا «إن بني إسرائيل تفرقت إحدى وسبعين فرقة فهلكت سبعون فرقة وخلصت فرقة واحدة وإن أمتي ستفترق على اثنتين وسبعين فرقة تهلك إحدى وسبعون فرقة وتخلص فرقة» ولا تعارض بين هذه الروايات لأن الافتراق حصل لمن حصل على طبق ما وقع فيها في بعض الأوقات وهو يكفي للصدق وإن زاد العدد أو نقص في وقت آخر {واختلفوا} في التوحيد والتنزيه وأحوال المعاد، قيل: وهذا معنى تفرقوا وكرره للتأكيد، وقيل: التفرق بالعداوة والاختلاف بالديانة. {مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ البينات} أي الآيات والحجج المبينة للحق الموجبة لاتحاد الكلمة، وقال الحسن: التوراة، وقال قتادة. وأبو أمامة: القرآن {وَأُوْلئِكَ} إشارة إلى المذكورين باعتبار اتصافهم بما في حيز الصلة {لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} لا يكتنه على تفرقهم واختلافهم المذكور، وفي ذلك وعيد لهم وتهديد للمتشبهين بهم لأن التشبيه بالمغضوب عليه يستدعي الغضب.
ثم إن هذا الاختلاف المذموم محمول كما قيل على الاختلاف في الأصول دون الفروع ويؤخذ هذا التخصيص من التشبيه، وقيل: إنه شامل للأصول والفروع لما نرى من اختلاف أهل السنة فيها كالماتريدي والأشعري فالمراد حينئذٍ بالنهي عن الاختلاف النهي عن الاختلاف فيما ورد فيه نص من الشارع أو أجمع عليه وليس بالبعيد.
واستدل على عدم المنع من الاختلاف في الفروع بقوله عليه الصلاة والسلام: «اختلاف أمتي رحمة» وبقوله صلى الله عليه وسلم: «مهما أوتيتم من كتاب الله تعالى فالعمل به لا عذر لأحد في تركه فإن لم يكن في كتاب الله تعالى فسنة مني ماضية فإن لم يكن سنة مني فما قال أصحابي إن أصحابي نزلة النجوم في السماء فأيما أخذتم به اهتديتم واختلاف أصحابي لكم رحمة»، وأراد بهم صلى الله عليه وسلم خواصهم البالغين رتبة الاجتهاد والمقصود بالخطاب من دونهم فلا إشكال فيه خلافًا لمن وهم، والروايات عن السلف في هذا المعنى كثيرة.
فقد أخرج البيهقي في «المدخل» عن القاسم بن محمد قال: اختلاف أصحاب محمد رحمة لعباد الله تعالى، وأخرجه ابن سعد في طبقاته بلفظ كان اختلاف أصحاب محمد رحمة للناس، وفي «المدخل» عن عمر بن عبد العزيز قال: ما سرني لو أن أصحاب محمد لم يختلفوا لأنهم لو لم يختلفوا لم تكن رخصة، واعترض الإمام السبكي بأن اختلاف أمتي رحمة ليس معروفًا عند المحدثين ولم أقف له على سند صحيح ولا ضعيف ولا موضوع ولا أظن له أصلًا إلا أن يكون من كلام الناس بأن يكون أحد قال: اختلاف الأمة رحمة فأخذه بعضهم فظنه حديثًا فجعله من كلام النبوة وما زلت أعتقد أن هذا الحديث لا أصل له، واستدل على بطلانه بالآيات والأحاديث الصحيحة الناطقة بأن الرحمة تقتضي عدم الاختلاف والآيات أكثر من أن تحصى، ومن الأحاديث قوله صلى الله عليه وسلم: «إنما هلكت بنو إسرائيل بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم» وقوله عليه الصلاة والسلام: «لاتختلفوا فتختلف قلوبكم» وهو وإن كان واردًا في تسوية الصفوف إلا أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ثم قال: والذي نقطع به أن الاتفاق خير من الاختلاف وأن الاختلاف على ثلاثة أقسام. أحدها: في الأصول ولا شك أنه ضلال وسبب كل فساد وهو المشار إليه في القرآن، والثاني: في الآراء والحروب ويشير إليه قوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ وأبي موسى لما بعثهما إلى اليمن: «تطاوعا ولا تختلفا» ولا شك أيضًا أنه حرام لما فيه من تضييع المصالح الدينية والدنيوية، والثالث: في الفروع كالاختلاف في الحلال والحرام ونحوهما والذي نقطع به أن الاتفاق خير منه أيضًا لكن هل هو ضلال كالقسمين الأولين أم لا؟ فيه خلاف، فكلام ابن حزم ومن سلك مسلكه ممن يمنع التقليد يقتضي الأول، وأما نحن فإنا نجوز التقليد للجاهل والأخذ عند الحاجة بالرخصة من أقوال بعض العلماء من غير تتبع الرخص وهو يقتضي الثاني، ومن هذا الوجه قد يصح أن يقال: الاختلاف رحمة فإن الرخص منها بلا شبهة وهذا لا ينافي قطعًا القطع بأن الاتفاق خير من الاختلاف فلا تنافي بين الكلامين لأن جهة الخيرية تختلف وجهة الرحمة تختلف، فالخيرية في العلم بالدين الحق الذي كلف الله تعالى به عباده وهو الصواب عنده والرحمة في الرخصة له وإباحة الإقدام بالتقليد على ذلك، ورحمة نكرة في سياق الإثبات لا تقتضي العموم فيكتفي في صحته أن يحصل في الاختلاف رحمة مّا في وقت مّا في حالة مّا على وجه مّا فإن كان ذلك حديثًا فيخرج على هذا وكذا إن لم يكنه، وعلى كل تقدير لا نقول إن الاختلاف مأمور به، والقول بأن الاتفاق مأمور به يلتفت إلى أن المصيب واحد أم لا؟ فإن قلنا: إن المصيب واحد وهو الصحيح فالحق في نفس الأمر واحد والناس كلهم مأمورون بطلبه واتفاقهم عليه مطلوب والاختلاف حينئذٍ منهي عنه وإن عذر المخطئ وأثيب على اجتهاده وصرف وسعه لطلب الحق.
فقد أخرج البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه من حديث عمرو بن العاص «إذا حكم الحاكم فاجتهد وأصاب فله أجران وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر» وكذلك إذا قلنا بالشبه كما هو قول بعض الأصوليين، وأما إذا قلنا: كل مجتهد مصيب فكل أحد مأمور بالاجتهاد وباتباع ما غلب على ظنه فلا يلزم أن يكونوا كلهم مأمورين بالاتفاق ولا أن لا يكون اختلافهم منهيًا عنه، وإطلاق الرحمة على هذا التقدير في الاختلاف أقوى من إطلاقها على قولنا: المصيب واحد، هذا كله إذا حملنا الاختلاف في الخبر على الاختلاف في الفروع، وأما إذا قلنا المراد الاختلاف في الصنائع والحرف فلا شك أن ذلك من نعم الله تعالى التي يطلب من العبد شكرها كما قال الحليمي في شعب الإيمان، لكن كان المناسب على هذا أن يقال اختلاف الناس رحمة إذ لا خصوصية للأمة بذلك فإن كل الأمم مختلفون في الصنائع والحرف لا هذه الأمة فقط فلابد لتخصيص الأمة من وجه، ووجهه إمام الحرمين بأن المراتب والمناصب التي أعطيتها أمته صلى الله عليه وسلم لم تعطها أمة من الأمم فهي من رحمة الله تعالى لهم وفضله عليهم لكنه لا يسبق من لفظ الاختلاف إلى ذلك ولا إلى الصنائع والحرف، فالحرفة الإبقاء على الظاهر المتبادر وتأويل الخبر بما تقدم.
هذه خلاصة كلامه ولا يخفى أنه مما لا بأس به، نعم كون الحديث ليس معروفًا عند المحدثين أصلًا لا يخلو عن شيء، فقد عزاه الزركشي في «الأحاديث المشتهرة» إلى كتاب «الحجة» لنصر المقدسي ولم يذكر سنده ولا صحته لكن ورد ما يقويه في الجملة مما نقل من كلام السلف، والحديث الذي أوردناه قبل وإن رواه الطبري والبيهقي في «المدخل» بسند ضعيف عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما على أنه يكفي في هذا الباب الحديث الذي أخرجه الشيخان وغيرهما، فالحق الذي لا محيد عنه أن المراد اختلاف الصحابة رضي الله تعالى عنهم ومن شاركهم في الاجتهاد كالمجتهدين المعتد بهم من علماء الدين الذين ليسوا بتدعين وكون ذلك رحمة لضعفاء الأمة، ومن ليس في درجتهم مما لا ينبغي أن ينتطح فيه كبشان ولا يتنازع فيه اثنان فليفهم.

.تفسير الآية رقم (106):

{يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106)}
{يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} نصب بما في {لَهُمْ} من معنى الاستقرار أو منصوب بأذكر مقدرًا، وقيل: العامل فيه عذاب وضعف بأن المصدر الموصوف لا يعمل، وقيل: عظيم، وأورد عليه أنه يلزم تقييد عظمته بهذا ولا معنى له، ورد بأنه إذا عظم فيه وفيه كل عظيم ففي غيره أولى إلا أن يقال: إن التقييد ليس راد، والمراد بالبياض معناه الحقيقي أو لازمه من السرور والفرح وكذا يقال في السواد والجمهور على الأول قالوا: يوسم أهل الحق ببياض الوجه وإشراق البشرة تشريفًا لهم وإظهارًا لآثار أعمالهم في ذلك الجمع، ويوسم أهل الباطل بضد ذلك، والظاهر أن الإبيضاض والإسوداد يكون لجميع الجسد إلا أنهما أسندا للوجوه لأن الوجه أول ما يلقاك من الشخص وتراه وهو أشرف أعضائه. واختلف في وقت ذلك فقيل: وقت البعث من القبور، وقيل: وقت قراءة الصحف، وقيل: وقت رجحان الحسنات والسيئات في الميزان، وقيل: عند قوله تعالى شأنه: {وامتازوا اليوم أَيُّهَا المجرمون} [ياس: 59]، وقيل: وقت أن يؤمر كل فريق بأن يتبع معبوده، ولا يبعد أن يقال: إن في كل موقف من هذه المواقف يحصل شيء من ذلك إلى أن يصل إلى حدّ الله تعالى أعلم به إذ البياض والسواد من المشكك دون المتواطئ كما لا يخفى، وقرأ تبيض وتسود بكسر حرف المضارعة وهي لغة وتبياض وتسواد.
{فَأَمَّا الذين اسودت وُجُوهُهُمْ} تفصيل لأحوال الفريقين وابتدأ بحال الذين اسودت وجوههم لمجاورته {وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} وليكون الابتداء والاختتام بما يسر الطبع ويشرح الصدر {أَكْفَرْتُمْ بَعْدَ إيمانكم} على إرادة القول المقرون بالفاء أي فيقال لهم ذلك، وحذف القول واستتباع الفاء له في الحذف أكثر من أن يحصى، وإنما الممنوع حذفها وحدها في جواب أما، والاستفهام للتوبيخ والتعجيب من حالهم، والكلام حكاية لما يقال لهم فلا التفات فيه خلافًا للسمين، والظاهر من السياق والسباق أن هؤلاء أهل الكتاب وكفرهم بعد إيمانهم كفرهم برسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الإيمان به قبل مبعثه وإليه ذهب عكرمة واختاره الزجاج والجبائي. وقيل: هم جميع الكفار لإعراضهم عما وجب عليهم من الإقرار بالتوحيد حين أشهدهم على أنفسهم {أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ قَالُواْ بلى} [الأعراف: 172] وروي ذلك عن أبيّ بن كعب، ويحتمل أن يراد بالإيمان الإيمان بالقوة والفطرة وكفر جميع الكفار كان بعد هذا الإيمان لتمكنهم بالنظر الصحيح والدلائل الواضحة والآيات البينة من الإيمان بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، وعن الحسن أنهم المنافقون أعطوا كلمة الإيمان بألسنتهم وأنكروها بقلوبهم وأعمالهم فالإيمان على هذا مجازي، وقيل: إنهم أهل البدع والأهواء من هذه الأمة، وروي ذلك عن عليّ كرم الله تعالى وجهه وأبي أمامة وابن عباس وأبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه.
{فَذُوقُواْ العذاب} أي المعهود الموصوف بالعظم والأمر للإهانة لتقرر المأمور به وتحققه، وقيل: يحتمل أن يكون أمر تسخير بأن يذوق العذاب كل شعرة من أعضائهم نعوذ بالله تعالى من غضبه، والفاء للإيذان بأن الأمر بذوق العذاب مترتب على كفرهم المذكور كما يصرح به قوله سبحانه: {ا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} فالباء للسببية، وقيل: للمقابلة من غير نظر إلى التسبب وليست عنى اللام ولعله سبحانه أراد {بَعْدَ إيمانكم} والجمع بين صيغتي الماضي والمستقبل للدلالة على استمرار كفرهم أو على مضيه في الدنيا.

.تفسير الآية رقم (107):

{وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (107)}
{وَأَمَّا الذين ابيضت وُجُوهُهُمْ فَفِى رَحْمَةِ الله} أي الجنة فهو من التعبير بالحال عن المحل والظرفية حقيقية، وقد يراد بها الثواب فالظرفية حينئذٍ مجازية كما يقال: في نعيم دائم وعيش رغد وفيه إشارة إلى كثرته وشموله للمذكورين شمول الظرف ولا يجوز أن يراد بالرحمة ما هو صفة له تعالى إذ لا يصح فيها الظرفية ويدل على ما ذكر مقابلتها بالعذاب ومقارنتها للخلود في قوله تعالى: {هُمْ فِيهَا خالدون} وإنما عبر عن ذلك بالرحمة إشعارًا بأن المؤمن وإن استغرق عمره في طاعة الله تعالى فإنه لا ينال ما ينال إلا برحمته تعالى ولهذا ورد في الخبر «لن يدخل أحدكم الجنة عمله فقيل له: حتى أنت يا رسول الله؟ فقال: حتى أنا إلا أن يتغمدني الله تعالى برحمته» وجملة هم فيها خالدون استئنافية وقعت جوابًا عما نشأ من السياق كأنه قيل: كيف يكونون فيها؟ فأجيب بما ترى وفيها تأكيد في المعنى لما تقدم، وقيل: خبر بعد خبر وليس بشيء، وتقديم الظرف للمحافظة على رؤوس الآي، والضمير المجرور للرحمة، ومن أبعد البعيد جعله للدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خلافًا لمن قال به، وجعل الكلام عليه بيانًا لسبب كونهم في رحمة الله تعالى وكون مقابلهم في العذاب كأنه قيل: ما بالهم في رحمة الله تعالى؟ فأجيب بأنهم كانوا خالدين في الخيرات، وقرئ ابياضت واسوادت.